بقلم: فتح الله كولن
العيد هو عصارة شهر رمضان بكامله، ولبّه.. وهو يقبل علينا وينثر على رؤوسنا هباته من وراء هذا العالم، فإذا هو بشرى البداية في ضمن النهاية. إن الإحساس بهذه البشرى يختلف من فرد لفرد ومن مجتمع لمجتمع. فبمقياس الاحساس العميق بشهر رمضان الذي مضى وانقضى، وبمقياس تلون القلوب بلون هذا الشهر، وانصباغها به، وبمقياس سمو المشاعر إلى ما وراء هـذه الآفاق، بل إلى ما وراء الوراء... بهذا المقياس تكون بركة العيد ذي الدلال، ونشوته ومقدار سحره.
كل صوت وكل همسة ونأمة، وكل حركة في مثل هـذا العيد الذي تستشعره القلوب في أعماقها، هي تعابير وإشارات مبهمة للأرواح، ولكنها سحرية إلى درجة أن العارفين بالحال يدركون -وإن كان بمقياس صغير- أنه ما من تأثير يفوقه. ويتعامل الشـاب والشيخ، والمرأة والرجل، والعالم والجاهل، والتلميذ والأسـتاذ، والعامل وأصحاب الحرف من الذين يملكون منافذ وإن كانت صغيرة في قلوبهم مع سحر هذه التعابير بمقاييس مختلفة، فيتلون كل مجلس يوجدون فيه بعطر العيد، وتتلألأ البسمات فوق العيون وعلى الشفاه، وتُسقي القلوب بشراب الكوثر.
يهب العيد أنسه لكل إنسان في كل شـريحة من شرائح المجتمع، ويتسلل إلى أعماق الجميع، ويُسمع صوته للجميع، ويعمل ما بوسـعه ليجذب الجميع إلى جوه. لا يُكره أحدا ولا يرتبط بالبروتوكولات، ولا يهدد من لا يجاريه في السر أو في العلن. ولكن يهرع الجميع إليه من كل قلوبهم بقوة الفطرة السـليمة الموجودة لديهم، ولا يكتفون بالتهنئة، بـل يعيشونها.
وبينما يعيش أصحاب القلوب المؤمنة الذين أدركوا العيد دقائقه وثوانيه النورانية التي تعدل السنوات، ويشعرون في جو الفرح والحبور المحيط بهم أينما ذهبوا وأينما تجولوا وكأن هناك أشياء تنثر على رؤوسهم من فوق وتصبّ، وتلفّ كل كيانهم، وتدخل إلى أعماق أرواحهم، تراهم يتوجهون إلى المصدر الذي وردت منه هذه الهبات، ويحسون بأن كل موجود حواليهم -حيا كان أم جمادا- يذوب أمام ناظرهم، وأنهم مدعوون إلى عالم آخر، فيعيشون على الدوام خارج حدودهم. والذين يشعرون بموهبتهم هذه في مثل هذا الجو الروحي، ويعرفون كيف يستنطقونها، يستطيعون بنسبة غنى الأفق المضيء لحدود معرفتهم، ولمدى حيوية عشقهم وشوقهم القيام بمزج مشاعرهم العميقة هذه، فيصلون هم ومن حولهم إلى عوالم من لذة العشق، وإلى أنس فريد في العلاقات الإنسانية.
كل صوت وكل نفس وكل تصرف في شهر رمضان يبدو لنا -في كثير من الأحيان- وكأنه أنغام الغناء المؤثر الرقيق لأمهاتنا قرب مهادنا. وأحياناً تبدو لنا هذه الكلمات وهذه الأفكار وهذه التصرفات من الرقة والحلاوة والليونة بحيث أننا في كل مكان نتجول فيه نحس أننا -بعد هذا الاستحمام الذي تطهرنا به- بخفة الطير، وأننا أصبحنا كأصحاب الأرواح الهائمة فوق المكان وخارجه.
وعندما يقابل الإنسان في العيد شخصا ويلقى منه معاملة طيبة، يتوقع مثل هذه المعاملة من الآخرين كذلك. فإن أضاف إلى هذه المتعة التي يلقاها طوال اليوم في عالم الحقيقة والواقع متعة تخيل وتصور ما سيلقاه من الآخرين يكون قد أنشأ عالما ساحرا جديدا خارج هذا العالم المحدود بأبعاده الثلاثة، وخارج هذا الزمان النسبي، عالما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يحط به عقل دنيوي.
أجل!.. أحياناً يكون العيد بالنسبة لهؤلاء الذين يتلبسون العيد تماما، بل يتحولون إلى معنى العيد نفسه بكل أحاسيسه ووجده ولهفته ومشاعره... يكون شيئا خارقا ونعمة مهداة من الله تعالى إلى درجة أن الإنسان يحسب أنه قد بدأ يتنـزه في سفوح الجنة في يوم رؤية الله تعالى والنظر إلى جماله، بل إن الإنسان ليحسب أحياناً العيد شقيق روحه، أو نسخة ثانية منه، ويحس أحياناً كأن للعيد أجنحة مصنوعة من ريش الملائكة، فيشعر في كل مكان يتجول أو يتنـزه فيه بنفحات هذا الرفيق الخفي وشوقه. صحيح أن العيد -بمقياس ما- ينطق كل أحد بمنطقه، ويظهر حكمه على الجميع، إلا أن له تأثيرا آخر وتأثيرا متميزا على بعض الأرواح.
أحياناً يتحول العيد بأصوات التكبير المرتفعة من المآذن، وبالأنين الأخروي للمحاريب، ويسمو إلى شيء آخر، بحيث إن الكثيرين يشعرون في تلك الساعات المباركة كأن جميع معاني السماء وعصارتها تنهمر عليهم، وأن أسرار العالم الآخر بدأت تهبّ كغيث مدرار، فيشعرون كل آن وكأنهم يتجرعون كؤوسا من جو الجنة ومن رحيقها.
في كل عيد تقريبا نتخيل -حسب قوة العوامل ونسبتها التي تثير مشاعر الفيوضات الربانية عندنا- وكأن العيد قبة محاكة من النور والألوان والمعاني والروح فوق رؤوسنا، وكأننا نستطيع مشاهدة اللانهاية من المنافذ الصغيرة أو الكبيرة الموجودة في هذه القبة. وبفضل هذا الأفق الواسع الذي يهبه الإيمان للمؤمنين يفكر المؤمن كيف أن هذا الزمان والمكان المحدودين يملكان أبعادا عديدة. وكمثال الملائكة التي تملك أجنحة وأبعادا عديدة، ننتقل بها -وإن كنا محدودين بزمان ومكان معينين- بمشاعرنا وأفكارنا من خلال مرايا عديدة إلى الماضي وإلى المستقبل وكأننا ننظر من خلال فانوس الزمن الحالي، فنعيش في آن واحد أزمانا عدة، وفي أماكن عدة. وأحياناً تتوسع هذه الحال فتضم آخرين إلينا، ونقوم بصفتنا مؤمنين نحمل في وجداننا بذرة ونواة الإيمان بوجود الجنة، فنتخيل أننا نرفرف بأجنحتنا فوق تلال الجنة مع الأرواح، ونتوجه معها نحو اللانهاية. وأمام هذه الهبات التي تفوق لياقتنا يترنم كل واحد منا بأبيات شعر:
لستُ أهلا ولا مستحقا لكل هذا الإحسان،
فلمَ وهب لي كل هذا اللطف والإحسان؟
ثم نرجع إلى أنفسنا لنقول: إذن فهذا هو العيد. أحياناً، وبفضل فوران أيماننا بصاحب الرحمة غير المحدودة فإن طوفان الأضواء التي تتفجر من وجداننا وتنتشر حوالينا تقوّض كل الموانع والحجب المادية حولنا وتجعلها جذاذا، وتغرق كل جانب بالنور إلى درجة أن القلوب تحسب وكأنها تطالع أعماق السماء من خلال منافذ ذلك المرصد الكبير، وتطلع على أسرار الوجود الموجودة خلف الأستار، فتعيش -وهي في هذا العالم المحدود الضيق- في عوالم جديدة، وترتفع وإن كان بخيالها وروح الفضول فيها من هذا المكان ذي الأبعاد المحدودة، لترى بأن المكان هو في الحقيقة "لا مكان"، والجمادات أصحاب حياة وروح، والتجليات الإلهية ظاهرة عيانا بيانا، فنحس برجفة في كياننا، ونشعر بجانب رعشة المهابة هذه بحرارتها، ونقول ونردد مع الشاعر:
الشعور بقربك يا رب جنة
فاسعدني بهذا الشعور دائما وأبدا...
ونتذوق من طعم العيش في حماه، والانتساب إليه لذة لا توصف، ويبدأ بالبحث عن الطرق الموصلة إلى "حظيرة القدس".
نسرع إليه على الدوام... نعيش مرتبطين به... ونحتضن كل شيء من أجله... نتأمل الربيع بكل نشوة... نشم الورود... نكون في مسامرة مع الوجود... أحياناً نخاطب الجبال والتلال والهضاب والسهول... نعرض كل صفات المؤمن تجاه الحياة وتجاه الوجود... ومن حين لآخر نقوم بدق بابه بأرق الأمنيات وبأنين صـادر من الأعماق، ثم نضع جباهنا على عتبة بابه ونفضي إليه بكل ما يعتلج في صدورنا.
أصوات الأذان، وإقـامة الصلاة، والصلوات، والأدعيـة، والمنـاجاة والاستغفار، والمراقبة الداخلية للنفس هي أنواع مختلفة من رموز التوجه نحو باب الله تعالى وإشاراته. ومع أن من المستحيل أن نعرف كيف ستُستقبَل هذه التصرفات وهذه الأصوات المرتفعة أمام ذلك الباب، في ذلك العالم الآخر، حسب نسبة الاخلاص والتقوى، وحسب وجود أنفاس الروح فيها، ولكننا نحس أحياناً بكياننا وهـو يذوب في مثل هـذه المشاعر والأدعية والمناجاة. أحياناً عندما نعجز عن التعبير عن الانفعالات التي تمور في أعماقنا، ولا نجد الكلمات المناسبة للإفصاح عنها، نركن إلى صمت فائر. وبانفعالاتنا الصامتة هـذه ننتظر ونترقب جوابا من مكان ما لموقفنا الداخلي العميق واللدني. وعوضا عن صمتنا نترقب صوتا هادرا. ومع أننا لا نستطيع سماع هذا الصوت الآتي بوضوح، ولا نعرف أيأتي من الملائكة أم من الروحانيين أم من المنافذ المجهولة في وجداننا، إلا أننا نؤمن بأن مثل هذا الجواب سيأتي حتما، وسنسمعه من خلال الرعشة التي تصيبنا، فنرتجف من الخشية أو ننفس عن أنفسنا بدموع الفرح التي نذرفها.
في كل وقت تقريبا عندما نمر بهذه الحالة الروحية نحس أن نظرتنا للحياة تتبدل وتتغير. ويبدو لنا وكأن الوجود والحوادث تعيش مرحلة تغير وتميّز. وأمام هذا الوضع الخارق وغير الاعتيادي الذي نرى أنفسنا مندفعين إليه ندرك تماما أنه من المستحيل على البعيدين عن نور هذا الدين أن يسمعوا أو أن يفهموا ما نحس وما نسمع.
بفضل هـذه المشـاعر وهذه الأحاسيس تبدأ أحياناً الحقائق المقدسة والمبهمة التي ترسخت في أرواحنا في العهود المبكرة بشكل معارف بدائية... تبدأ تتفتح كالأزهار النضرة في شعاب قلوبنا بفضل النور والإيمان اللذين يملكان قوة إنباتية. فنرى كيف أن تلك الحقائق المجردة التي قبلناها ببراءة الأطفال تعود إلى كياننا ووجودنا. هنا نذوق ونحن في دهشة طعم تحول هذه الأسرار النائمة في صمت في أعماقنا إلى براعم ثم تفتحها أزهارا.
والخلاصة أن العيد يولد كل مرة في سماء دنيانا بَدْراً، ويمتد في أفقنا مثل قوس قزح... وهذا النور النابع من وراء عالمنا يهب لنا فرحة تفوق فرحة ليلة عيد البحرية التي تأخذ فيها المدن عندنا كل زينتها، وتطلق فيها صواريخ الاحتفال إلى السماء. وفي كل ناحية من نواحي الدنيا يحلّ فيها هذا العيد يقوم الناس له تعظيما وحبا مثل قيامنا نحن. لأنه يهب لأرواحنا أحلى الأشعار بأجمل العبارات، وأرق الأنغام، ويفتح الأبواب أمام فضولنا بإيماءاته وإشاراته، ويهمس جو الآخرة في قلوبن